مقال بقلم/ فالح الشبلي
تعاريف مصطلح “السياسة” متعددة وإن كانت لا تختلف كثيرا في جوهرها، إلا أننا نلحظ ذلك الاختلاف بشكلٍ جليٍّ في مقاصدها واستخداماتها الدارجة، والتي تتأرجح بين الإيجابية والسلبية، وهو ما يحدده توظيف الكلمة ذاتها.
وبإنزال السياسة إلى أرض الواقع، نجد ممارستها أمرا لا مفرّ منه للمجتمعات البشرية، كما بات مصطلح المشاركة في صنع القرار السياسي، مصطلحًا براقا في هذه الأيام كمصطلحات الحرية ومفاهيمها، وحقوق الإنسان، والديمقراطية وغيرها.
ولكن في الحقيقةِ بالنسبةِ لي لا يُوجدُ في السياسة تقاسمُ مناصبَ ومشاركةُ حكمٍ، بل هو استخدامٌ من أجل الوصول، وتحقيق غاياتٍ ومآربَ معينةٍ، وكيف يستخدمون الشعوب ولأيّ هدفٍ، فلا يوجد حدثٌ عبثيٌّ أو غيرُ مصطنعٍ، ولا يحدث شيءٌ إلا وله هدفٌ وأسبابٌ، وإلا فلنْ يصبح هذا سياسيّا وذاك عسكريّا والآخر اقتصاديّا، فاستقراء الواقع بهدوء يجعل الخبير يرى أن هناك أحداثا تكون وراءها جهاتٌ معينةٌ، فمن غير الممكن حدوث أمرٍ دون تخطيطٍ، ومن بعده يكون الاستخدام والاستغلال والاستثمار، وقد يُقال: إنَّ الناسَ قد خرجوا بعفويةٍ وهذا غيرُ صحيحٍ، بل هو أمرٌ مُدّبرٌ ومُخططٌ له.
إنّ نظرتي للأمور منذ بداية أحداث العراق وإلى الآن، مع ما تقوم به أمريكا أو إيران؛ هي نظرةٌ خاصةٌ لهذا الموضوع، فلا شيء يمرُّ مرورَ الكرامِ، إنما هو استخدامٌ وتجنيدٌ للشعوب لقتل شعوب أخرى، وهو شيء مرسوم، فإمّا تمريرُ قانونٍ أو كشفٌ عن أمورٍ كانتْ خافيةً، أو فرضُ مستجداتِ واقعٍ وأزمةٍ، وهكذا مع الأسف يغفلُ عنها أكثر السياسيين، فيتعاملون مع واقع أبعد ما يكون عن الحقيقة، ومن صفات بعض الشعوب أنها تملك ذاكرة السمك: أي: تنسى كثيرا مما مرَّ بها، فربط الأحداثِ بعضها مع بعض يكشف مغزى النتائج التي كان مُخطّطًا لها، فهنا يبدأ الحاذق بكشف أمورٍ لا يحتاج إلى التصريح عنها، وهذا له أمثلةٌ كثيرةٌ رغم أنني أحاول أن أتعامل مع الحدث في بعض الأحيان كما هو، ولكنّ مرارة المشاريع التي مررنا بها تُجبرني على أن أعود وأتعمّق أكثر في مواضيع أقرب ما تكون من إنهاءِ بعض الفئات من الشّعب، بالنظر إلى المخططات والمشاريع المتراكمة، وهنا سنتعاملُ مع ما حدث في العراقِ في الأيام الماضية وفق احتمالاتٍ استقرأتها مما خفي وظهر من الأحداث؛ فنقولُ:
• الاحتمال الأول: وهو إيعاز الصّدر لأنصاره بالخروج، واستجابةُ أنصارِه لذلك حميّة أو تديّنا، أو تبعا لمصلحة معينة، كما فعلت بعض العشائر التي وقفت مع هذه الأحداث، ولا أعلم هل تمّ ذلك بطلبِ جماعاتٍ مقرّبةٍ من الصّدر مقابلَ تفاهماتٍ معيّنةٍ أم لا.
فهذا أحد الأهداف، أن يكون الصدرُ متفقًا مع الحكومة الإيرانية للقيامِ بعملٍ ما، وقد تكونُ الحكومةُ الإيرانيّة اتفقت مع المالكي أيضًا، فالكلُّ ثارَ والكلُّ يعتقدُ أن الموقف سينتهي لصالحهِ، الصّدر ضد الإطار المتمثل في المالكي، هذه إحدى النظريات، وقد ذكرت سابقا نظريتي حول أفغانستان وسبب الانسحاب الأمريكي غير المنظم والتخلي عن الكثير من الأسلحة لتستولي عليها طالبان …. إلخ (راجع مقالتي حول هذا الموضوع بعنوان “أفغانستان والمكر الدوليّ”) إذنْ فقد تكون حقيقةُ الواقعِ هي جرُّ الشعبِ العراقيِّ إلى حربٍ أهليّةٍ منظمةٍ، ومُعدّ لها، فكل هؤلاء كانوا أدواتٍ استخدمتهم أمريكا من خلال إيران. وبناءً عليه أقول: لم ينتهِ ما كُلّفوا به، فهم لا يزالون يعملون وفق المخطط المرسوم، وقد سُئِلْتُ قبل مدة عن هذا الموضوع، فقلتُ: إنها بدايةُ حربٍ أهليّةٍ في العراق، ووافقني السائلُ، لأنّ هدوءَ العراق ليس من مصلحة المحتل، فعندما يهدأ البلدُ ويهدأ الشعبُ لن يكونَ هناك مكانٌ للمحتل الذي لا يمكنه العيش إلا في اضطرابٍ وفتنةٍ تشغل الشعب عنه، بينما هو ينهبُ ثرواتِ البلد وخيراتِه مستغلًّا انشغال أبناء الوطن بمآسيهم: من كهرباء وماء ومظاهرات وغيرها، والمحتلُّ يسرق نفط العراق وثرواته بكل سلاسة.
• أما الاحتمال الثاني: فهو أن الصدرَ ـ كما رأينا ـ وجّه أتباعه إلى الذهاب مباشرة إلى مجلس النواب، ومجلس النواب ـ كما هو معلوم ـ هو القيادةُ السنيَّةُ الوحيدةُ في الحكومة، فكأنه بذلك يقضي على الوجودِ السنيِّ في الحكومة العراقية، وهذا هو مبتغى إيران منذ تدخلها في العراق، وبذلك يتم تهميشهم بعد أن كانوا أكبر مُكوِّنٍ من مُكوّناتِ الشعبِ العراقيِّ، وهذان هما أكثر احتمالين ترجيحًا.
• الاحتمال الثالثُ: أن يحدث اقتتالٌ بين هاتين الفئتين ـ أعني الصدرين مع الإطار ـ بتخطيطٍ أمريكيٍّ لإنهاءِ الوجودِ الإيرانيِّ عن طريق القضاءِ على أتباع إيران في الخارج بالاقتتال، مع إيقاف الدَّعمِ حتّى تضمحلَّ وتنتهي تلك التّشعّباتُ، فقد انتهى دورها بعد أن خدمت أمريكا والصهيونيّة العالميّة. وهذا فعل المخططات الأمريكيّة الصهيونيّة بعد استخدام كل فئةٍ سواء كانوا أفرادا أم جماعات، دولا أم حكومات، وهذا هو مصير كلِّ من يستخدمونه، وبذلك يسهلُ عليهم القضاءُ على إيران في الداخل، ومن ثمّ تقسيمها.
وفي خضمّ الأحداث المتسارعة في المنطقة التقيتُ قبل عدة أيام بعض القادةِ، وطرحوا عليَّ أسئلةً حول الأمر في الشرق الأوسط، وكان الجواب أن الأمر مضطربٌ، وهذا الاضطرابُ يدلّ على شيءٍ، فلا حدثَ دون سببٍ كما ذكرتُ في المقدمة، فهذا اضطرابٌ في العراق وآخرُ في سوريا، وفي لبنان واليمن وفلسطين، هذه اضطراباتٌ لها إرهاصاتٌ ونتائجُ، قد تنتهي باقتتالٍ لتصفية شأن إيران، والقضاء عليها في المنطقة.
وفي أحد الأيام ـ كذلك ـ دار حوارٌ بيني وبين أحد المسؤولين الأجانب، فقالَ: إن ملف الشرق الأوسط والعالم العربي هو ملفٌّ واحدٌ، وهو أدرى بما يقول؛ لأنه يتحدث من ….
إذن؛ كلُّ ما يحدثُ في الوطنِ العربيِّ الآن هو مخططٌ واحدٌ، وهذا الكلامُ يعزّزُ نظرية انتهاء الدور الإيرانيّ، والدليلُ عليه أنه قد لاح في الأفق وضع حدٍّ للأزمة اليمنية، وهذا يلحق بالأحداث في العراق، فقد نرى تقسيمَ اليمن أو توحيدَه، لكن بهيئةٍ ضعيفةٍ مُطيعةٍ، لتُخمدَ الاضطرابات دون أن تموت، ولتبقى نارا تحت الرماد يسهلُ إشعالها كلما أُريدَ لها أن تشتعل.