مقال بقلم/ فالح الشبلي
إن كثيراً مما يحدث اليوم غفل عنهُ المفكرون بالأمس، فحيلٌ تتبعها حيل وأفكار تتلوها أفكار، ودراسات تتبعها دراسات؛ لكي يمكر الخصم بخصمه ويغلب الإنسانُ الإنسانَ.
صراعات تتلوها صراعات والكل يعدّ ما يقوم به نجاحاً، يستخدمون لذلك المكر والإيقاع بالمقابل، وكثير من هذه الأمور قد تكون شخصية.
ولكني أريد أن أتطرق اليوم إلى ما يخص سياسات الدول مع بعضها البعض، فقد تفننت كثير من الدول في طرق الاستيلاء واحتلال دولة أخرى من حيث لا تدري، فتجنح في احتلال دولة أخرى بسهولة ومن غير تشويش أو إعلان، إلى غير ذلك من الأمور التي كانت نادرة في الأزمان الماضية، حتى اتجهت بعض الدول إلى شراء بعض القيادات؛ لكي تحكم البلد المقصود بالخفية. فيبدؤون بشراء المثقف، سواء أكان ذا منصب صغير أم رفيع عال، يقوم الاحتلال بالتغلغل من خلال شراء الذمم ثم تتوسع أكثر حتى يكون لها موطئ قدم في البلد المقصود، وتتدرج في هذه المسألة إلى أن تتنوع وتسيطر على كثير من الثقافات، وقد تكون البداية من الإعلام، فعندما تمتلك الإعلام تبدأ السيطرة بشراء الشخصيات الواحدة تلو الأخرى، حتى تصل إلى نهاية هذا الاستدراج، وذلك بشراء وامتلاك أرفع المسؤوليات والمناصب، مثل: مجالس الشورى وقيادات الأحزاب، وبعضها قد يكون مقرباً من رئاسة الدولة المعنية.
لقد باتت هذه الحالة حقيقة واقعة تعاني منها {مع الأسف} كثير من الدول وقد يكون واقع الأمة اليوم هو هذا المكر المتفنن في الحيل الاحتلالية.
• الأمر الواقع:
بعد أن يسيطر عدو الدولة على كثير من الشخصيات التي يستطيع من خلالها الوصول إلى القرار، يبدأ المواطن العادي في الشعور بهذا الواقع المر. وهذا طبعاً من خلال القرارات التي يلمس فيها ميولاً وانجرافاً لصالح المحتل، وهذا أمر لاحظناه في كثير من الدول، بل إنّ كثيراً من الدول قد سُرقت أملاكها بسبب الاحتلال الخفي الذي قد لا يشعر به الكثير، هنا يبدأ القائد الخفي في تعيين وتنصيب من يريد إلى أن يتمكن من الوصول إلى أعلى منصب في تلك الدولة، ألا وهو رئيس الدولة، فإذا ما وصل فلا شك أنه قد ملك الأمر من غير منازع أو منافس، بحيث يكون هذا الرئيس أشبه بسفير للاحتلال في بلده، فيبدأ بالعبث في سياستها الداخلية والخارجية وفي توجيه اقتصادها ثم السيطرة على أموالها وتسييرها كما يريد أيضاً من غير منافس، وهنا تنطلق المعارضة ضد هذا الحاكم المنصب من خلال أعداء الشعب، وهم قد ذاقوا الويلات من هذه الحكومة أو تلك جراء سيطرة المتصرف على الوضع في البلاد والتصرف في مقدراتها وسياساتها وكل شيء من مقوماتها، فيغدو هذا أمراً واقعاً على الدولة أو الجمهورية المستهدفة، وتتحول حالها من دولة مستقلة ذات سيادة إلى محتلة ليس لها أي قرار في علاقاتها مع الدول أو حتى مع شعبها وفي اختيار ما هو مناسب أو غير مناسب …. إلخ.
• أسماء عدة:
تحت أسماء عدة تبدأ تصفية من يعارض هذا الاحتلال الباطن كما يحصل في بعض الدول، فمن وافقهم يتم احتضانهُ ـ تحت المراقبة طبعاً ـ وتسييره وفق ما تشتهيه الدولة المحتلة، ثم قد تستخدمه لمحاربة الطرف الآخر، فيتحول الصراع إلى صراع داخلي قد لا تستطيع بعض الدول التدخل فيه، فتكون المصيبة أعم وأحرج مما لو احتلته دولة ما رسمياً، وتتغير المعادلة من محاربة احتلال إلى اعتراك داخلي يعد شبيها بالحرب الأهلية، وهنا تخرج هذه الدولة من حالة الاحتلال إلى حالة الدول الواقعة تحت حرب أهلية أو اعتراك داخلي، ويُطرد النصحة من ديارهم بعد سياسة تهجير وقتل ممنهج وتهديم {هدم} البنى التحتية؛ لكي يصعب على هذه الفئة أو تلك الرجوع إلى بلادها، وهنا يبدأ المحتل التفنن في هذا الجانب. وثمة ملاحظة هنا، وهي أن هذا المحتل قد يفتح طريقاً آمنة لهذه الفئة أو تلك لإخراجها بالتعاون مع الجهة المتعاونة مع المحتل، بسبب بعض العروض التي توهب لهذا المتعاون، هنا تبدأ المصيبة الأعم والأكبر والأشمل على المواطن النازح، فهل يا ترى يستطيع الاستمرار في هذه البلاد إلى آخر عمره أم هي مسألة مؤقتة لكي يرغب في الخروج من بلاده إلى بلد آخر ثم بعدها تبدأ الهجرة الثانية إلى بلدان أخرى، عندها يتشتت الشعب بين البلدان ثم يندثر ويصبح عدماً بعد وجود.
ثم يتسلسل المحتل في التفنن في تصفية من وافقه أيضاً أو لم يقاومه دفاعاً عن بلده على أقل تقدير، لكي يصفيه بطرق أخرى، منها التهجير الثاني للشعب أو تغيير معالم راسخة وثابتة له بمعالم أخرى طارئة عليه، وذلك كي يقسم شعب هذه الدولة بعد استقطاب مواطنيه إليها، وهذه أيضاً سياسة تغيير الديموغرافية المقصودة في البلدان المستهدفة، إذاً تهجير وقتل وتشريد وتغيير ديموغرافية تحت أسماء كثيرة ابتدعها المحتل لكي ينتقل من مرحلة احتلال إلى مرحلة ضم ودمج هذه الدولة إلى دولته.
• التفاوض مع الشعوب:
قد يبدأ المحتل بالتراجع بعد أن يشعر بخسارته المعركة، وذلك تحت عوامل عدة، منها: ضغط بعض الدول العظمى عليه، فيكون قد تجرع السم بعد أن ظن أنه نجح في الحياة، ويبدأ بالتفتيش عن مخرج وذلك بإقناع السياسي المعارض والقيادات المعارضة الأخرى بأنواعها وأصنافها، فيكون موقفه موقف المفلس الذي فوجئ بعكس النتائج التي لم يحسب لها حسابا، فمن سياسة فن ومكر، وغرف تدار من قبل عباقرته. تبدأ المعارضة بالتفنن في صيده وإيقاعه في شرك نصبه لنفسه، فيستخدم عبقريته مع العباقرة ولكنه يناطح جبالاً قد رسخت في معرفة مكره، فيغدو التفاوض لا لأجل انسحابه بل لأجل كسره وهزيمته، ويتمنى لو خرج فقط بالحفاظ على مملكته، وهنا يكابد الغلطة الأولى ومعالجة الخطوة الثانية، وهنا يكون النصر لمن بُغي عليه واعتدي.
يتضح هنا أن المحتل قد فكر ودرس لكنه لم يفلح في الحكم؛ لأن الشعوب تتكاتف في هذه المواقف حتى يخرجوا بقيادات يشهد لها التاريخ بأنها قد نافحت عن بلادها وصبرت على مر الحياة من أجل أن تقول للمحتل: لا، فكان جزاؤهم في الدنيا سيرة طيبة وموقفا مشرفا.
المصدر: مدونات الجزيرة