ثقةٌ حافظ، عنده بعضُ الأخطاء والأغلاط وقعَت في روايته.
قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: أبو داود محدِّث صَدوق، كان كثيرَ الخطأ؛ [ الجرح والتعديل: 4/ 113 ت/ 491 ].
قلتُ: وقول أبي حاتم: كان كثيرَ الخطأ، ولم يتبيَّن لي كم هو العدد الذي أخطأ فيه، فأبو داودَ مُكثر من الحديث والشيوخ، وقول الجارح فيه: كثيرُ الخطأ، دون ذِكر العدد فهذا أعدُّه من الجَرح المبُهَم، وذلك مقابل ما رواه أبو داود.
قال الخليلي: سمعت محمد بن إسحاقَ الكَيسانيَّ يقول: سمعتُ أبي يقول: سمعت يونسَ بن حبيبٍ الأصبهانيَّ يقول: قدم علينا أبو داود الطيالسيُّ وأملى علينا مِن حفظِه مائةَ ألف حديث، أخطأ في سبعينَ موضعًا، فلما رجع إلى البصرة كتب إلينا بأنِّي أخطأتُ في سبعين موضعًا فأصلِحوها. [ الإرشاد: 1/ 240 ].
قلتُ: وهل مَن كان بهذا الحفظ عندهم يُضعَّف من أجل سبعين موضعًا التي أخطأ فيها هذا الإمام ؟ ثم إنَّ قصة رجوعه تُثبت لنا أنَّ للإمام الطيالسيِّ كتابًا وأصلاً لحديثه، فعندما رجَع إلى البصرة وراجع أصولَه تبيَّن له الخطأُ يقينًا، فرجع عنه إلى الصواب، فهذا الإمام الجليل الحافظ عنده حفظٌ وإتقان يُعتمد عليه في الإملاء، وله كتابٌ كأصل من أصوله، يستمد منه، ويرجع إليه أيضًا إذا شكَّ في حفظه.
فقد يكون ما تقدَّم من جَرح أبي حاتم له هذا في حال تحديثه لهم من حفظه، فكان يقع منه الخطأُ بعض الأحيان، ولهذا اعتذَر عنه الإمام الذهبيُّ كما سيأتي.
ويؤيِّد ما ذهَبنا إليه ما رواه أحمدُ بن الفُرات عن أحمدَ بنِ حنبل، فقال: سألتُ أحمد بن حنبلٍ عن أبي دواد، فقال: عندنا ثقةٌ صدوق، فقلت: إنه يخطئ ؟ قال: يُحتمل له. [ طبقات المحدِّثين بأصبهان: رقم/ 235 ].
وقال محمد بن إبراهيم الأصبهاني: سمعتُ أبا مسعود قال: كتبوا إليَّ من أصبهان أنَّ أبا داود أخطأ في تِسعِمائة، أو قالوا: ألف، فذكرتُ ذلك لأحمد، فقال: يُحتمل لأبي داودَ. [ التقيد لمعرفة رواة السنن والمسانيد: ص/ 278 ]، [ تاريخ بغداد: 9/ 26 ].
قال الخطيب البغداديُّ معلِّقًا بعده: قلتُ: كان أبو داود يحدِّث من حفظه والحفظُ خوَّان، فكان يغلط، مع أنَّ غلطه يسيرٌ في جنب ما رَوى على الصحَّة والسلامة.
وقال إبراهيم بن سعيد الجوهري: أخطأ أبو داود الطيالسي في ألفِ حديث. [ الكامل لابن عدي: 3/ 278 ].
قلتُ: وهذا من المبالغة في الجَرح كما سيأتي من كلام الذهبي.
قال الذهبي في السِّير مُعقبًا ومعلِّقًا: هذا قاله إبراهيمُ على سبيل المبالغة، ولو أخطأ في سُبع هذا لضعَّفوه. [ 9/ 382 ].
وقال ابن عدي: وأبو داودَ الطيالسيُّ له حديثٌ كثير عن شُعبةَ وعن غيره من شيوخه، وكان في أيامه أحفظَ مَن بالبصرة، مقدَّمًا على أقرانه لحفظِه ومعرفته، وما أدري لأيِّ معنًى قال فيه ابنُ المنهالِ ما قال، فهو كما قال عمرُو بن علي: ثقةٌ، وإذا جاوزتَ في أصحاب شعبةَ من معاذِ بن معاذ وخالدِ بن الحارث ويحيى القطَّان وغُندَر، فأبو داود خامسُهم، وقد حدَّث بأصبهانَ كما حكى عنه بُندارٌ واحدًا وأربعينَ ألفَ حديثٍ ابتداءً، وإنما أراد به مِن حفظه، وله أحاديثُ منها يرفعها، وليس بعجَب مَن يحدث بأربعين ألف حديثٍ مِن حفظه أن يَخطئ في أحاديثَ منها، يَرفع أحاديثَ يوقفُها غيرُه، ويُوصل أحاديثَ يُرسلها غيره، وإنما أتى ذلك من قِبَل حفظه، وما أبو داود عندي وعند غيري إلا متيقِّظٌ ثبت. [ الكامل: 4/ 278 ].
وقال الإمام الذهبي أيضًا: أحد الأعلام، ثقة، أخطأ في أحاديث. [ الميزان: ت/ 3293 ].
وقال ابن سعد: وكان كثير الحديث، ثقةً، وربما غلط . [ الطبقات الكبرى: 9/ 299 ].
وقال محمد بن المنهال الضرير، قلت لأبي داود صاحب الطيالسي يومًا: سمعتَ مِن ابن عون شيئًا ؟ قال: لا، قال: فتركتُه سنة وكنت أتَّهمه بشيء قبل ذلك حتى نَسي ما قال، فلما كان بعد سنة قلت له: يا أبا داود، سمعتَ من ابن عون شيئًا ؟ قال: نعم، قلت: كم ؟ قال: عشرون حديثًا ونيِّف، قلت: عدَّها علي، فعدَّها كلَّها فإذا هي أحاديثُ يزيدَ ما خلا واحدًا له لم أعرفه، قال ابن عدى: أراد به يزيدَ بن زُريع. [ الكامل لابن عدي: 3/ 280 ]، [ تاريخ بغداد: 9/ 25 ].
قلتُ: وكما تقدَّم من ذكر أقوال الأئمة بنقدهم وجَرحهم لأبي داود والذي حاولتُ فيه أن أردَّ عليه بالإنصاف والتحقيق العلميِّ الدقيق، ولكن يُعادل ما تقدَّم من الكلام الذي نُقل فيه، أيضًا هناك ثناءُ الأئمة عليه وتوثيقُهم له مستفيض، وهذا قد ذاع صيته بين أهل الحديث واشتهَر، وقد أطنَب كثيرٌ من أهل العلم بمدحِه، ومن هؤلاء الأئمة: وَكيعُ بنُ الجرَّاح قال: أبو داودَ جبلُ العلم. [ طبقات المحدثين بأصبهان: رقم/ 232 ].
قلتُ: وهذه من الألفاظ النادرة في التَّعديل، بل الوحيدةُ في فنِّها، والتي تُذكر في أعلى مراتب التعديل، ولا أعلم أحدًا قدسبَق الإمام وَكيعًا إليها، ولم أقف أيضًا على مَن استخدمها من الأئمَّة النُّقاد غير وكيع في تعديل الرواة وتوثيقهم، فلو لم يَكن هذا الإمام الهمامُ أهلاً لهذا الوصف لما وصفَه وكيعٌ به.
وقال أيضًا: ما بقي أحدٌ أحفظَ لحديثٍ طويل من أبي داودَ الطيالسي، قال عبد الله بن عِمران: فذكرتُ ذلك لأبي داود، فقال: قل له: ولا لقصير. [ مقدمة الجرح والتعديل: ص/ 224 ].
وقال عليُّ بن المَدينيِّ: ما رأيتُ أحفظَ من أبي داود الطيالسي. [ طبقات المحدثين بأصبهان: رقم/ 235 ]، [ تاريخ بغداد: 9/ 27 ].
وقال محمد بن بشار: سمعت أبا داود الطيالسي يقول: حدثتُ بأصبهان بأحدٍ وأربعين ألفَ حديث ابتداءً من غير أن أسأل. [ الكامل لابن عدي: 3/ 278 ]، [ تاريخ بغداد: 9/ 26 ].
قال إبراهيم الأصبهاني: سمعتُ بُندارًا محمدَ بن بشار يقول: ما بكيتُ على أحدٍ مِن المحدِّثين ما بكيتُ على أبي داود الطيالسي، قال: فقلت له: وكيف ؟ قال: فقال: لِما كان مِن حفظه، ومعرفته، وحسنِ مُذاكرته. [ تاريخ بغداد: 9/ 27 ].
وقال أحمدُ بن شاذانَ: سمعتُ عن أبي داود ستِّين ألفَ حديث لم نرَ معه كتابًا قط . [ طبقات المحديثين بأصبهان: رقم/ 234 ].
وقال عمرو بن شبَّة: كتَبوا عن أبي داودَ بأصبهان أربعينَ ألف حديث وليس معه كتاب. [ تاريخ بغداد: 9/ 27 ].
قال عمرو بن عليٍّ الفلاَّسُ: ما رأيتُ في المحدِّثين أحفظَ مِن أبي داود الطيالسي، سمعتُه يقول: أسرد ثلاثين ألف حديث ولا فخر، وفي صدري اثنا عشَر ألف حديثٍ لعثمانَ البزِّي، ما سألَني عنها أحدٌ من أهل البصرة، فخرجتُ إلى أصبهان فبثَثتُها فيهم. [ تاريخ بغداد: 9/ 27 ].
وقال العجليُّ: بصري ثقة، وكان كثيرَ الحفظ، رحلتُ إليه فأصبتُه مات قبل قدومي بيوم وكان قد شرب البَلاذُرَّ هو وعبدُ الرحمن بن مهدي، فجُذِم أبو داود، وبَرِص عبدُ الرحمن، فحَفظ أبو داود أربعينَ ألف حديث، وحفظ عبدُ الرحمن عشرةَ آلاف حديث. [ الثقات: ت/ 665 ]، [ تاريخ بغداد: 9/ 27 28 ].
وقال يحيى بنُ مَعين رحمه الله – وهذا في تفضيله على الإمام عبد الرحمن بن مهدي في بعض الرُّواة، قال عثمان بن سعيد الدارمي: سألتُ يحيى بنَ مَعينٍ عن أصحاب شعبةَ، قلتُ: .… فأبو داودَ أحبُّ إليك أو حرَميُّ بن عِمارةَ ؟ فقال: أبو داود صَدوق، أبو داود أحبُّ إليَّ منه، قلتُ: فأبو داودَ أحبُّ إليك فيه أو عبدُ الرحمن بن مهدي ؟ فقال: أبو داود أعلم به. [ سؤالاته: رقم/ 107 ].
قلتُ: وأكتفي بما ذكَرتُ من ثناء العلماء على هذا الإمام الجليل، ففيه غُنيةٌ وكفاية، ولله الحمد والمنَّة، وهو عندي ثقةٌ متقِن إمام، جبلٌ في العلم والحفظ .