بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين الذي بعث رحمة للعالمين.
أما بعد:
فإن علم الحديث علم واسع ومتشعب، وفنونه كثيرة. وقد أفنى أهل العلم أعمارهم فيه ولم ينتهوا منه. والحديث مَتْنٌ وإسنادٌ، والمتن: قول النبي – صلى الله عليه وسلم – أو الصحابة رضوان الله عليهم، أو …. الخ. والإسناد: نقلة الحديث، وهم رجاله.
فصحة الحديث وضعفه مبنيان على نقد المتن والإسناد.
ونقد الإسناد له وجوه، منها: الوقوف على رجال إسناده، إما ثقات فيصحح الحديث، مع مراعاة انتفاء الشذوذ والعلة، وإما غير ذلك فيضعف الحديث.
وهناك ضوابط كثيرة لمعرفة ثقة الراوي من ضعفه. ومن هذه الضوابط: موافقة الراوي ومخالفته، فموافقته للرواة الثقات معتبرة في الدلالة على ضبطه وإتقانه، وكثرة مخالفته لهم دليل على نكارة حديثه الناتجة عن قلة ضبطه وإتقانه وحفظه. وبهذه الطريقة كان أهل العلم يعرفون ضبط الراوي لحديثه إذا وافق الثقات أو خالفهم، فيقولون: فلان خالف الناس في أحاديث، وفلان لا بأس به لم يأت بما ينكر عليه.
فتجد من صنف في الضعفاء يذكر الراوي ويذكر بعض أحاديثه التي خالف بها ويستدل على ضعفه بها، كابن عدي في ( الكامل )، والعقيلي في ( الضعفاء )، والذهبي في ( ميزان الإعتدال ) وغيرهم.
وبعضهم يضعف الراوي لمخالفته وإنْ وُثِّقَ، مثال على ذلك: قول الدارقطني في الحسن بن عبيد الله كما جاء في ( العلل ) ( 2/ 204 ) ( س/222 ): ” وقول الحسن بن عبيد الله عن قرثع غير مضبوط، لأن الحسن بن عبيد الله ليس بالقوي، ولا يقاس بالأعمش …. ” انتهى.
وهذا عندما خالف الأعمش، وقد وثقه يحيى بن معين، وزاد: صالح، والعجلي، وأبو حاتم، والنسائي، وابن سعد، وغيرهم. ولم يضعفه أحدٌ غير الدارقطني لما رأى منه من مخالفة.
وقال الذهبي: ثم اعلم أن أكثر المتكلم فيهم ما ضعفهم الحفاظ إلا لمخالفتهم للأثبات. الموقظة ( ص/52 ).
والعلل أنواع، تجد كلَّ علةِ حديثٍ مختلفة عن الأخرى، ومن هذه العلل المخالفات، وهي ما خالف بها الراوي أو الرواة غيرهم.
فأحببت أن أنشر ما توفر عندي من هذه المخالفات عند تحقيقي لبعض الأحاديث.
وليعلم القارئ الكريم أن الراوي قد يخالف، وأقوم بوضعه في كتابي، ويستدرك عليَّ فيما بعد أنه قد توبع، فكما هو معلوم أن هذا العلم لا ينتهي، فأنا حكمت على ما ظهر عندي، ثم إن الراوي المخالف إذا توبع يتحدد الخطأ فيمن روى عنه المخالف أو عن شيخه، أو عن شيخ شيخه …. ألخ، إذا صحت المتابعة.
والحديث قد يصح من طريق آخر أو يكون ضعيفاً، فليس هذا بحثي.
ثم إن هناك بعض التنبيهات:
الأول: ليست كل العلل ذكرها العلماء الذين صنفوا في هذا العلم في كتبهم أو أحدهم، فمثلاً حديث أبي سعيد الخدري الذي يرويه عنه يحيى بن عمارة، ( ليس فيما دون خمس أواقٍ صدقة … ). فهذا الحديث لم يذكره الحافظ الدارقطني في علله، وقد أوردته في كتابي.
الثاني: المخالفة والمتابعة قد تصدر من ثقة، ولكنه مدلس، فلا أعتد بها، فقد يرويه المدلس عن ضعيف، فيكون الضعيف هو الذي خالف.
وقد يقول قائل: إن من الرواة من لا يدلس إلا عن ثقة، مثل: ابن عيينة.
أقول: وإن كان كما قال، فقد يروي المدلس حديثاً، عن ثقة، ولكن هذا الثقة لم يسمع ممن حدث عنه، مثال ذلك: ما أورده عبد الله بن الإمام أحمد في العلل ( 2/ 345 )، ( س/2532 )، قال: قلت لأبي: إن سفيان بن عيينة حدث عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ( ما نفعني مالٌ ما نفعني مالُ أبي بكر ).
أنكره وقال: من حدث به؟ قلت: يحيى بن معين، حدثنا عن سفيان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة. قال يحيى: فقال رجل: لسفيان من ذكره ؟ قال: وائل. قال أبي: نرى وائل لم يسمع من الزهري، إنما روى وائل عن ابنه، وأنكره أبي أشد الإنكار، وقال: هذا خطأ.
ووائل هو: ابن داود التيمي، أبو بكر الكوفي.
وابنه: هو بكر بن وائل.
ولهما ترجمة في تهذيب الكمال.
وانظر ـ أيضاً ـ: الإرشاد، للخليلي ( 1/ 370 – 371 )، وحديث خيثمة الأطرابلسي ( ص/130 ).
أقول: والذي لا يدلس إلا عن ثقة قد يدلس عن ضعيف أيضاً، فقد روى الخطيب البغدادي في الفصل للوصل المدرج في النقل (1/ 497 – 498) بإسناده، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن أبي هريرة، وزيد بن خالد وشبل، قالوا: كنا عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وقام إليه رجل، فقال: أنشدك الله لما قضيت بيننا بكتاب الله، فقام خصمه وكان أفقه منه، فقال: صدق، اقض بيننا بكتاب الله، وائذن لي، إن ابني كان عسيفاً على هذا وإنه زنى بامرأته … الحديث.
ثم قال الخطيب: اتفقت هذه الجماعة على رواية هذا الحديث عن سفيان بن عيينة، وساقت جميعه عنه عن الزهري، وفي المتن كلمات لم يسمعها سفيان من الزهري، وهي قوله: ( فسألت رجلاً من أهل العلم فأخبرني أن على ابني جلد مائة وتغريب سنة، وعلى امرأة هذا الرجم ) كانت هذه الكلمات عند سفيان، عن صالح ابن أبي الأخصر، عن الزهري …
أقول: وصالح بن أبي الأخضر، ضعيف.
مثال آخر على رواية الضعيف:
قال الحافظ في الفتح ( 1/ 299 ) بعد الحديث ( 193 ): قوله: ( ومن بيت النصرانية ) هو معطوف على قوله ( بالحميم ) أي وتوضأ عمر من بيت نصرانية، وهذا الأثر، وصله الشافعي، وعبد الرزاق وغيرهم، عن ابن عيينة، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، به، ولفظ الشافعي: ( توضأ من ماء في جرة نصرانية ) ولم يسمعه ابن عيينة من زيد بن أسلم، فقد رواه البيهقي من طريق سعدان بن نصر، عنه، قال: حدثونا عن زيد بن أسلم، فذكره مطولاً.
ورواه الإسماعيلي من وجه آخر عنه بإثبات الواسطة، فقال: عن ابن زيد بن أسلم، عن أبيه، به. انتهى كلام الحافظ.
قلت: وأولاد زيد، هم: عبد الله، وأسامة، وعبد الرحمن، وقد ضعفهم بعض أهل العلم، ومن أراد التوسع فليراجع تراجمهم.
ثم إن هذا المدلِّس الثقة قد يروي عن ثقة، ولكنه مدلس، فيرويه عن ضعيف أو كذاب، أو ….. أو يرويه المدلس عن الراوي المخالف نفسه، ولا يذكره موهماً أنه متابع له.
وانظر ـ أيضاً ـ: العلل لأحمد برواية عبد الله ( 2/ 257 ) ( س/2175 )، ومسند الحميدي ( 1/ 119 – 120 ) ( ح/245 )، ( 1/ 120 )، ( ح/247 )، وجامع الترمذي ( 3/ 403 )، ( ح/1095 ـ 1096 )، ومعجم شيوخ الصدفي لابن الابار ( ص/182 )، والجليس الصالح للنهرواني ( 3/ 210 – 211 ).
وقد كان عملي في هذا الكتاب على النحو التالي:
أذكر اسم الصحابي أولاً، ثم أورد حديثه أو أحاديثه ومن خرجه، ثم أذكر الرواة أو الراوي المختلف عليه، ثم أذكر من خالفه أو خالفهم، وأذكر الحديث ومن خرجه، وأتكلم على المخالف وأذكر ما جاء فيه.
وقد جعلت هذا البحث على هيئة أجزاء، وهذا الجزء الأول منه.
وفي الختام أسأل الله أن يوفق الجميع لطاعته، وأن ينفعني والباحثين في هذا العلم، هو ولي ذلك والقادر عليه.
وكتب
فالح الشبلي
في الثلاثاء 10 رجب 1423 هـ
الموافق 17/ 9/2002